فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من لطائف وفوائد المفسرين:

من فوائد الشعراوي:
قال رحمه الله:
{رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلَتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ}.
فهل يكون إعلانهم للإيمان، يعني إيمانهم بتشريعات رسالة سابقة، لا، إن الإيمان هنا مقصود به ما جاء به عيسى من عند الله؛ لأن كل رسول جاء بشيء من الله، فوراء مجيء رسول جديد أمر يريد الله إبلاغه للناس، ونحن نعلم أن العقائد لا تغيير فيها؛ وكذلك الأخبار؛ وكذلك القصص، ولكن الأحكام هي التي تتغير. فكأن إعلان الحواريين هو إعلان بالإيمان بما جاء سابقا على عيسى ابن مريم من عقائد وبما جاء به عيسى ابن مريم من أحكام وتشريعات.
وقولهم: {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلَتَ} كلمة {بِمَا أَنزَلَتَ} تدل على منهج منزل من أعلى إلى أدنى، ونحن حين نأخذ التشريع فنحن نأخذه من أعلى. ولذلك قلنا سابقا: إن الله حينما ينادي من آمن به ليتبع مناهج الإيمان يقول: {تعالوا} أي ارتفعوا إلى مستوى التلقي من الإله وخذوا منه المنهج ولا تظلوا في حضيض الأرض، أي لا تتبعوا أهواء بعضكم وآراء بعضكم أو تشريع بعضكم، وما دام المؤمن يريد العلو في الإيمان، فليذهب بسلوكه في الأرض إلى منهج السماء.
وقولهم: {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلَتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ}. إن المتبع عادة يقتنع بمن اتبعه أولا، حتى يكون الاتباع صادرا من قيم النفس لا من الإرغام قهرا أو قسرا، فنحن قد نجد إنسانا يرغم إنسانا آخر على السير معه، وهنا لا يقال عن المُرغَم: أنه اتبع إنما الذي يتبع، أي الذي يسير في نفس طريق صاحبه يكون ذلك بمحض إرادته ومحض اختياره. فلو سار شخص في طريق شخص آخر بالقهر أو القسر لكان ذلك الاتباع بالقالب، لا بالقلب. ولذلك فمن الممكن لمتجبر أن يمسك سوطا ويقهر مستضعفا على السير معه، وفي ذلك إخضاع لقالب المستضعف، لكنه لم يخضع قلبه، فالإكراه يخضع القالب لكنه لا يخضع القلب.
{لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 3- 4].
إن الحق يخبر رسوله أن أحدا من العباد. لا يستعصي على خالقه، وأنه سبحانه القادر على الإحياء والإماتة، ولو أراد الله أن ينزل آية تخضع أعناق كل العباد لَفَعَل، لكن الحق لا يريد أعناق الناس، ولكنه يطلب القلوب التي تأتي طواعية وبالاختيار، وأن يأتي العبد إلى الإيمان وهو قادر ألا يجيء. هذه هي العظمة الإيمانية. وقال الحواريون بعد إعلانهم الإيمان بما جاء به عيسى: {فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} أنه الطلب الإيماني العالي الواعي، الفاهم. إنهم يحملون أمانة التبليغ عن الرسول، ويشهدون كما يشهد الرسل لأممهم، ويطلبون أن يكتبهم الله مع الذين يشهدون أن الرسل يبلغون رسالات الله وأنهم يحملونها من بعدهم؛ ولذلك قلنا عن أمة محمد عليه الصلاة والسلام: إنها الأمة التي حملها الله مهمة وصل بلاغ الرسالة المحمدية إلى أن تقوم الساعة.
لماذا؟ ها هو ذا القول الحق: {وَجَاهِدُوا فِي الله حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُواْ بِالله هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج: 78].
ولذلك فلن يأتي أنبياء أو رسل من بعد أمة محمد صلى الله عليه وسلم، لقد ائتمن الله أمة محمد؛ بعد محمد صلى الله عليه وسلم، لذلك فلا نبوة من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبعد ذلك يخبرنا الحق: {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله وَالله خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}. اهـ.

.تفسير الآية رقم (54):

قوله تعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ الله وَالله خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54)}

.من أقوال المفسرين:

.قال البقاعي:

ولعله عقب قوله: {فاكتبنا مع الشاهدين}.
بقوله: {ومكروا} المعطوف على قوله: {قال من أنصاري إلى الله} بالإضمار الصالح لشمول كل من تقدم له ذكر إشارة إلى أن التمالؤ عليه يصح أن ينسب إلى المجموع من حيث هو مجموع، أما مكر اليهود فمشهور، وأما الحواريون الاثنا عشر فنقض أحدهم وهو الذي تولى كبر الأمر وجر اليهود إليه ودلهم عليه- كما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى في سورة النساء، وترتيب المكر على الشرط يفهم أنهم لما علموا إحساسه بفكرهم خافوا غائلته فأعملوا الحيلة في قتله.
والمكر- قال الحرالي- إعمال الخديعة والاحتيال في هدم بناء ظاهر كالدنيا، والكيد أعمال الخدعة والاحتيال في هدم بناء باطن كالتدين والتخلق وغير ذلك، فكان المكر خديعة حس والكيد خديعة معنى- انتهى.
ثم إن مكرهم تلاشى واضمحل بقوله: {ومكر الله} أي المحيط بكل شيء قدرة وعلمًا.
ولما كان المقام لزيادة العظمة أظهر ولم يضمر لئلا يفهم الإضمار خصوصًا من جهة ما فقال: {والله} أي والحال أنه الذي له هذا الاسم الشريف فلم يشاركه فيه أحد بوجه {خير الماكرين} بإرادته تأخير حربه لهم إلى وقت قضاه في الأزل فأمضاه وذلك عند مجيء الدجال بجيش اليهود فيكون أنصاره الذين سألهم ربه هذه الأمة تشريفًا لهم، ثم بين ما فعله بهم من القضاء الذي هو على صورة المكر في كونه أذى يخفى على المقصود به بأنه رفعه إليه وشبه ذلك عليهم حتى ظنوا أنهم صلبوه وإنما صلبوا أحدهم، ويقال: أنه الذي دلهم، وأما هو عليه الصلاة والسلام فصانه عنده بعد رفعه إلى محل أوليائه وموطن قدسه لينزله في آخر الزمأن لاستئصالهم بعد أن ضرب عليهم الذلة بعد قصدهم له بالأذى الذي طلبوا به العز إلى آخر الدهر فكان تدميرهم في تدبيرهم، وذلك أخفى الكيد. اهـ. بتصرف يسير.
من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

أصل المكر في اللغة، السعي بالفساد في خفية ومداجاة، قال الزجاج: يقال مكر الليل، وأمكر إذا أظلم، وقال الله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ} [الأنفال: 30] وقال: {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} [يوسف: 102] وقيل أصله من اجتماع الأمر وأحكامه، ومنه امرأة ممكورة أي مجتمعة الخلق وإحكام الرأي يقال له الإجماع والجمع قال الله تعالى: {فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ} [يونس: 71] فلما كان المكر رأيًا محكمًا قويًا مصونًا عن جهات النقص والفتور، لا جرم سمي مكرًا. اهـ.
فصل:
قال الفخر:
أما مكرهم بعيسى عليه السلام، فهو أنهم هموا بقتله، وأما مكر الله تعالى بهم، ففيه وجوه:
الأول: مكر الله تعالى بهم هو أنه رفع عيسى عليه السلام إلى السماء، وذلك أن يهودا ملك اليهود، أراد قتل عيسى عليه السلام، وكان جبريل عليه السلام، لا يفارقه ساعة، وهو معنى قوله: {وأيدناه بِرُوحِ القدس} [البقرة: 87] فلما أرادوا ذلك أمره جبريل عليه السلام أن يدخل بيتًا فيه روزنة، فلما دخلوا البيت أخرجه جبريل عليه السلام من تلك الروزنة، وكان قد ألقى شبهه على غيره، فأخذ وصلب فتفرق الحاضرون ثلاث فرق، فرقة قالت: كان الله فينا فذهب، وأخرى قالت: كان ابن الله، والأخرى قالت: كان عبد الله ورسوله، فأكرمه بأن رفعه إلى السماء، وصار لكل فرقة جمع فظهرت الكافرتان على الفرقة المؤمنة إلى أن بعث الله تعالى محمدًا صلى الله عليه وسلم، وفي الجملة، فالمراد من مكر الله بهم أن رفعه إلى السماء وما مكنهم من إيصال الشر إليه.
الوجه الثاني: أن الحواريين كانوا اثنى عشر، وكانوا مجتمعين في بيت فنافق رجل منهم، ودل اليهود عليه، فألقى الله شبهه عليه ورفع عيسى، فأخذوا ذلك المنافق الذي كان فيهم، وقتلوه وصلبوه على ظن أنه عيسى عليه السلام، فكان ذلك هو مكر الله بهم.
الوجه الثالث: ذكر محمد بن إسحاق أن اليهود عذبوا الحواريين بعد أن رفع عيسى عليه السلام، فشمسوهم وعذبوهم، فلقوا منهم الجهد فبلغ ذلك ملك الروم، وكان ملك اليهود من رعيته فقيل له إن رجلًا من بني إسرائيل ممن تحت أمرك كان يخبرهم أنه رسول الله، وأراهم إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص فقتل، فقال: لو علمت ذلك لحلت بينه وبينهم، ثم بعث إلى الحواريين، فانتزعهم من أيديهم وسألهم عن عيسى عليه السلام، فأخبروه فتابعهم على دينهم، وأنزل المصلوب فغيبه، وأخذ الخشبة فأكرمها وصانها، ثم غزا بني إسرائيل وقتل منهم خلقًا عظيمًا ومنه ظهر أصل النصرانية في الروم، وكان اسم هذا الملك طباريس، وهو صار نصرانيًا، إلا أنه ما أظهر ذلك، ثم أنه جاء بعده ملك آخر، يقال له: مطليس، وغزا بيت المقدس بعد ارتفاع عيسى بنحو من أربعين سنة، فقتل وسبى ولم يترك في مدينة بيت المقدس حجرًا على حجر فخرج عند ذلك قريظة والنضير إلى الحجاز فهذا كله مما جازاهم الله تعالى على تكذيب المسيح والهم بقتله.
القول الرابع: أن الله تعالى سلّط عليهم ملك فارس حتى قتلهم وسباهم، وهو قوله تعالى: {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ} [الإسراء: 5] فهذا هو مكر الله تعالى بهم.
القول الخامس: يحتمل أن يكون المراد أنهم مكروا في إخفاء أمره، وإبطال دينه ومكر الله بهم حيث أعلى دينه وأظهر شريعته وقهر بالذل والدناءة أعداءه وهم اليهود، والله أعلم. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَمَكَرُواْ} أي الذين أحس منهم الكفر إذ وكلوا به من يقتله غيلة {وَمَكَرَ الله} بأن ألقى شبهه عليه السلام على غيره فصلب ورفعه إليه، قال ابن عباس: لما أراد ملك بني إسرائيل قتل عيسى عليه السلام دخل خوخة وفيها كوة فرفعه جبريل عليه السلام من الكوة إلى السماء فقال الملك لرجل منهم خبيث: أدخل عليه فاقتله فدخل الخوخة فألقى الله تعالى عليه شبه عيسى عليه السلام فخرج إلى أصحابه يخبرهم أنه ليس في البيت فقتلوه وصلبوه وظنوا أنه عيسى، وقال وهب: أسروه ونصبوا خشبة ليصلبوه فأظلمت الأرض فأرسل الله الملائكة فحالوا بينه وبينهم فأخذوا رجلًا يقال له يهودا وهو الذي دلهم على عيسى وذلك أن عيسى جمع الحواريين تلك الليلة وأوصاهم ثم قال ليكفرن بي أحدكم قبل أن يصيح الديك فيبيعني بدراهم يسيرة فخرجوا وتفرقوا وكانت اليهود تطلبه فأتى أحد الحواريين إليهم وقال: ما تجعلون لي إن دللتكم عليه؟ فجعلوا له ثلاثين درهمًا فأخذها ودلهم عليه فألقى الله تعالى عليه شبه عيسى عليه السلام فأدخل البيت ورفع وقال: أنا الذي دللتكم عليه فلم يلتفتوا إلى قوله وصلبوه وهم يظنون أنه عيسى فلما صلب شبه عيسى وأتى على ذلك سبعة أيام قال الله تعالى لعيسى: اهبط على مريم ثم لتجمع لك الحواريين وبثهم في الأرض دعاة فهبط عليها واشتعل الجبل نورًا فجمعت له الحواريين فبثهم في الأرض دعاة ثم رفعه الله سبحانه، وتلك الليلة هي الليلة التي تدخن فيها النصارى فلما أصبح الحواريون قصد كل منهم بلدة من أرسله عيسى إليهم.
وروي عن غير واحد أن اليهود لما عزموا على قتله عليه السلام اجتمع الحواريون في غرفة فدخل عليهم المسيح من مشكاة الغرفة فأخبر بهم إبليس جمع اليهود فركب منهم أربعة آلاف رجل فأخذوا باب الغرفة فقال المسيح للحواريين: أيكم يخرج ويقتل ويكون معي في الجنة؟ فقال واحد منهم: أنا يا نبي الله فألقى عليه مدرعة من صوف وعمامة من صوف وناوله عكازه وألقى عليه شبه عيسى عليه السلام فخرج على اليهود فقتلوه وصلبوه وأما عيسى عليه السلام فكساه الله النور وقطع عنه شهوة المطعم والمشرب ورفعه إليه، ثم إن أصحابه لما رأوا ذلك تفرقوا ثلاث فرق فقالت فرقة: كان الله تعالى فينا فصعد إلى السماء، وقالت فرقة أخرى: كان فينا ابن الله عز وجل ثم رفعه الله سبحانه إليه، وقالت فرقة أخرى منهم: كان فينا عبد الله ورسوله ما شاء الله ثم رفعه إليه وهؤلاء هم المسلمون، فتظاهرت عليهم الفرقتان الكافرتان فقتلوهم فلم يزل الإسلام مندرس الآثار إلى أن بعث الله تعالى محمدًا صلى الله عليه وسلم، وروي عن ابن إسحق أن اليهود عذبوا الحواريين بعد رفع عيسى عليه السلام ولقوا منهم الجهد فبلغ ذلك ملك الروم وكان ملك اليهود من رعيته واسمه داود بن نوذا فقيل له: إن رجلًا من بني إسرائيل ممن تحت أمرك كان يخبرهم أنه رسول الله تعالى وأراهم إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص فعل وفعل فقال: لو علمت ذلك ما خليت بينهم وبينه ثم بعث إلى الحواريين فانتزعهم من أيديهم وسألهم عن عيسى عليه السلام فأخبروه فبايعهم على دينهم وأنزل المصلوب فغيبه وأخذ الخشبة فأكرمها ثم غزا بني إسرائيل فقتل منهم خلقًا عظيمًا، ومنه ظهر أصل النصرانية في الروم ثم جاء بعده ملك آخر يقال له طيطوس وغزا بيت المقدس بعد رفع عيسى عليه السلام بنحو من أربعين سنة فقتل وسبى ولم يترك في بيت المقدس حجرًا على حجر فخرج عند ذلك قريظة والنضير إلى الحجاز. اهـ.

.قال البغوي:

{وَمَكَرُوا وَمَكَرَ الله وَالله خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54)}.
قوله تعالى: {وَمَكَرُوا} يعني كفار بني إسرائيل الذي أحس عيسى منهم الكفر وبروا في قتل عيسى عليه السلام، وذلك أن عيسى عليه السلام بعد إخراج قومه إياه وأمه عاد إليهم مع الحواريين، وصاح فيهم بالدعوة فهموا بقتله وتواطؤوا على الفتك به فذلك مكرهم، قال الله تعالى: {وَمَكَرَ الله وَالله خَيْر الْمَاكِرِينَ} فالمكر من المخلوقين: الخبث والخديعة والحيلة، والمكر من الله: استدراج العبد وأخذه بغتة من حيث لا يعلم كما قال: {سنستدرجهم من حيث لا يعلمون} (182- الأعراف) وقال الزجاج: مكر الله عز وجل مجازاتهم على مكرهم فسمي الجزاء باسم الابتداء لأنه في مقابلته كقوله تعالى: {الله يستهزئ بهم} (15- البقرة) {وهو خادعهم} (142- النساء) ومكر الله تعالى خاصة بهم في هذه الآية، وهو إلقاؤه الشبه على صاحبهم الذي أراد قتل عيسى عليه السلام حتى قتل.
قال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن عيسى استقبل رهطا من اليهود فلما رأوه قالوا: قد جاء الساحر ابن الساحرة، والفاعل ابن الفاعلة، وقذفوه وأمه فلما سمع ذلك عيسى عليه السلام دعا عليهم ولعنهم فمسخهم الله خنازير. فلما رأى ذلك يهوذا رأس اليهود وأميرهم فزع لذلك وخاف دعوته فاجتمعت كلمة اليهود على قتل عيسى عليه السلام، وثاروا إليه ليقتلوه فبعث الله إليه جبريل فأدخله في خوخة في سقفها روزنة فرفعه الله إلى السماء من تلك الروزنة، فأمر يهوذا رأس اليهود رجلا من أصحابه يقال له: ططيانوس أن يدخل الخوخة ويقتله، فلما دخل لم ير عيسى، فأبطأ عليهم فظنوا أنه يقاتله فيها، فألقى الله عليه شبه عيسى عليه السلام، فلما خرج ظنوا أنه عيسى عليه السلام فقتلوه وصلبوه، قال وهب: طرقوا عيسى في بعض الليل، ونصبوا خشبة ليصلبوه، فأظلمت الأرض، فأرسل الله الملائكة فحالت بينهم وبينه، فجمع عيسى الحواريين تلك الليلة وأوصاهم ثم قال: ليكفرن بي أحدكم قبل أن يصيح الديك ويبيعني بدراهم يسيرة، فخرجوا وتفرقوا، وكانت اليهود تطلبه، فأتى أحد الحواريين إلى اليهود فقال لهم: ما تجعلون لي إن دللتكم على المسيح؟ فجعلوا له ثلاثين درهما فأخذها ودلهم عليه. ولما دخل البيت ألقى الله عليه شبه عيسى، فرفع عيسى وأخذ الذي دلهم علي فقال: أنا الذي دللتكم عليه فلم يلتفتوا إلى قوله وقتلوه وصلبوه، وهم يظنون أنه عيسى، فلما صلب شبه عيسى، جاءت مريم أم عيسى وامرأة كان عيسى دعا لها فأبرأها الله من الجنون تبكيان عند المصلوب، فجاءهما عيسى عليه السلام فقال لهما: علام تبكيان؟ إن الله تعالى قد رفعني ولم يصبني إلا خير، وإن هذا شيء شبه لهم، فلما كان بعد سبعة أيام قال الله عز وجل لعيسى عليه السلام: اهبط على مريم المجدلانية اسم موضع في جبلها، فإنه لم يبك عليك أحد بكاءها، ولم يحزن حزنها ثم ليجتمع لك الحواريون فبثهم في الأرض دعاة إلى الله عز وجل فأهبطه الله عليها فاشتعل الجبل حين هبط نورًا، فجمعت له الحواريين فبثهم في الأرض دعاة ثم رفعه الله عز وجل إليه وتلك الليلة هي التي تدخن فيها النصارى، فلما أصبح الحواريون حدَّث كل واحد منهم بلغة من أرسله عيسى إليهم فذلك قوله تعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ الله وَالله خَيْر الْمَاكِرِينَ}.
وقال السدي: إن اليهود حبسوا عيسى في بيت وعشرة من الحواريين فدخل عليهم رجل منهم فألقى الله عليه شبهه، وقال قتادة ذكر لنا أن نبي الله عيسى عليه السلام قال لأصحابه أيكم يقذف عليه شبهي فإنه مقتول، فقال رجل من القوم: أنا يا نبي الله فقتل ذلك الرجل ومنع الله عيسى عليه السلام ورفعه إليه وكساه الله الريش وألبسه النور وقطع عنه لذة المطعم والمشرب وطار مع الملائكة فهو معهم حول العرش، وكان إنسيا ملكيا سمائيا أرضيا، قال أهل التواريخ: حملت مريم بعيسى ولها ثلاث عشرة سنة، وولدت عيسى ببيت لحم من أرض أوري شلم لمضي خمس وستين سنة من غلبة الإسكندر على أرض بابل فأوحى الله إليه على رأس ثلاثين سنة، ورفعه الله من بيت المقدس ليلة القدر من شهر رمضان، وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة فكانت نبوته ثلاث سنين، وعاشت أمه مريم بعد رفعه ست سنين. اهـ.